مسارات: وادي فينان بوابة الريح


عبدالرحيم العرجان
سكنه الإنسان ما قبل عصور الزراعة ولم تنقطع الحياة فيه منذ ذلك الوقت، عرف بنقاء نحاسه، وعروبة تاريخه وصناعته، نال جوائز وتصنيفات عالمية لجماله وتنوعه، وكان مصدر إلهام لمن يريد الابداع بالخلوة.

ابتدأ سحره مع انعطافنا الاول من بلدة القادسية باتجاه ضانا بمشهد سرمدي يأسر الألباب بإفاقه البعيدة، المكتنز بغيوم الصباح بين شقيّ جباله؛ فتصاحبه نشوة تجعلك تتأمله بصمت المتجددة في كل زيارة مع فنجان قهوة ببيت استضافة -متربع فوق مدخله-يمتد عمر بنائه العتيق الى سبعة أجيال من أبناء الخوالدة من ابناء القرية القديمة، لنبدأ بعد هذه الجرعة الروحانية رحلة المشي نحو أفق الدهشة، المستمد اسمه من صفته فنان/ أفنان الطويل الحسن.

وادٍ لا تعلم عنه الكثير لسطحية ما نشر عنه إلا إن كنت قارئًا وباحثاً جيد، نزول حاد في البداية يتطلب الاعتماد على عصي المشي لتخفيف الضغط على المفاصل وأربطة الساقين، خصوصاً أننا نحمل مستلزمات مبيت ليلتين في نزله البيئي، مسار يبهرك منذ البداية وأنت تسير بين جبال طيفية الألوان فنية التكوين، احتضنت في أعاليها وبين شقوقها نباتات لتكون موطن لطيور ترافقك عبر بطن الوادي موسمي الجريان، فتارةً تشاهد جوارحه من صقر ونسر وعقاب وشاهين الجبل النادر وتارةً تسمع هدير حمامه البري أو نعيق البوم أو هدهدة الهدهد، وبين اشجار الدفلى والقصيب الكثيف قد تلمح نيص أو ما ترك من سهام.

استمرت نشوة جماله إلى أن وصلنا النزل البيئي مقر إقامتنا في آخر الوادي بعد مسير من الصباح بمستوى استجمامي سهل الصعوبة، ليستكمل بمشهد الغروب، رافقنا إليها أحد أدلاء النزل وصاحبنا قدح شاي عطره بنبته الصفيره والتي قطفها من بين الصخور، فحدثنا بلسان المعتز والفخور به عن تجذره بالمكان واعتزازه به، وكيف أن النزل وظف من أهالي المنطقة ويتزود من منتجاتهم وأصبح مصدر جذب سياحي متخصص ونال جائزة فندقية عالمية بالسياحية البيئية.

عدنا للنزل ورائحة الطعام الشهي تزيد من رغبتنا لتناوله، فالعادة دائما ما يكون غدائنا بالمسار فواكه أو سندويشات خفيفة حتى لا تستنفذ طاقتنا ونحافظ عليها، أما بالنسبة للعشاء؛ فقد كان بالكامل نباتي بعيد عن تدخل أي مواد هرمونية في إنتاج مكوناته الطبيعية والواقع ضمن إدارة الجمعية الملكية لحماية الطبيعة.

بعدها استكملنا السهرة إلى جانب موقد الحطب والحديث عمن كان هنا من شخصيات لنجد أن ما من عاشق للطبيعة أو من رائد في المسير والترحال إلا وكان هنا وقد نام على سرير غرفةٍ بسيطة التصميم، بالغة الأناقة ذو ترتيب من تصميم المهندس الفذ عمار خماش.
وبعد نوم عميق بعيد عن وسائل الاتصال أو إنارة الكهرباء كان للفجر مشهد آخر بأشعته المتخللة لصخور الجبال وثناياها، لنبدأ نهارنا الاستكشافي لتاريخنا التليد لموطن النحاس ومملكته ومناجمه العربية الأدومية النبطية وكيف أصبح قِبلة لعلاقات امتدت من الفراعنة على ضفاف النيل إلى روما وممالكها في بلاد الشام، بعد أن كانت تجلب سبائكها من قبرص، لا وبل كان يتنافس بنقائها وجودتها، الاستخدامات في الأسلحة والأدوات الجنائزية وصناعة الحلي وغيرها من متطلبات الحياة في ذلك الوقت.

وجهتنا امتدت إلى وادي خالد الواقع خلف سلسلة الجبال المقابلة للنزل ويتطلب طريق التفافية تخللها عدد من المواقع التي قامت سلطة المصادر الطبيعة بالتنقيب فيها، وما زالت فوهات الحفر وعلاماتها ماثلة لليوم مشوهة لجمال الطبيعة وعذريتها؛ فلو قامت مشاريع تعدينية حديثة لدمرت المكان ولوثته، بعدها وصلنا إلى أول منجم وبقايا خاماته الفيروزية تزين مدخله، وتدعوك لدخول كهفه الذي وصل عمقه بقلب الجبل إلى أكثر من مئتي متر، لا تريد أن تغادره فكل شيء فيه يبعث شعور بالفخر والاعتزاز بماضينا وأمل كبير لمستقبلنا، فهنا كانت معاول تحفر وتصهر وتتاجر حتى أن الرومان والمصريين كانوا يبعثون السجناء للعمل بهذه المدينة الصناعية التي قل نظيرها في العالم.

ومن منجم إلى آخر وصلنا إلى مساحات تجميع الخامات وكأنها هجرت أمس وبقاياها الموجودة في كل مكان، وكيف كان أجدادنا العرب الأنباط والأدومين أصحاب فكر وابتكار بتسخير الهواء وتوظيفه عبر مجاري مدروسة الاتجاه لرفع درجات حرارة المصاهر لإنتاج سبائكه من الحجارة الجيرية وصخور الدولميت الرمادية، لم نترك منجم كهفيّ إلا ودخلناه وكان هناك مناجم بئرية التصميم متعددة المنافذ وبعضها له فتحات تهوية إضافية، فلم نجازف باكتشافها لعدم معرفتنا بمعوقات مجولها.

ومن هذه الخامات كانت تصنع أيضا ألوان ترابية للرسم، ولتزين جدران البيوت والقصور والمعابد بها وغيرها من مستلزمات الحياة اليومية، ويتم استخدام بعض حجارتها لصناعة الحلي والمجوهرات، كما استخدمت أحدها ليكون جزء من عمل فني.

وصلنا النزل بعد الغروب وبعد العشاء المختلف اطباقه عن يوم أمس عدنا لاستكمال قصة المكان وكان لنا شركاء في الجلسة انضموا إلينا من ضيوف النزل وكيف كانت هذه المنطقة عامرة تشمل خربة النحاس والجارية وخربة أفدان وآثار لحضارات مختلفة وما زرناه اليوم وأمس، حيث تتطلب ترويج أكبر لأنها تجمع كل مقومات السياحة من تاريخ وطبيعة بكر وتفرد عالمي لأقدم مناجم متكاملة وغير بعيدة عن المثلث الذهبي، وبهذه الحصيلة مجتمعة صنفتها ناشيونال جيوغرافي كأحد أجمل خمسة مسارات ترحال في آسيا ضمن مرحلة ضانا البتراء بدرب الأردن.

صباح اليوم الأخير كان مختلف؛ فقد استيقظنا على “صوت يبعث السعادة” وهو قرع الأجراس المعلقة بأعناق الماعز خلال مرورها تحت شبابيك الغرف، وبعد الإفطار البلدي البحت وشرائنا شموع مما ينتج في مشغل النزل انطلقنا نحو نقطة النهاية ببلدة قريقرة واسمها القديم فيدون نسبة إلى الأمير أدومي من بني عيسو وبما أنها تنتهي بواو ونون فهي عربية المصدر، تخلل الطريق عدد من الخرب الرومانية والبيزنطية والإسلامية ومساكن ومصاطب زراعية من عصور ما قبل الحضارة وبعضها يرجع إلى العصر الحجري حيث كان الدفن فيها ضمن البيوت لينقل بعدها للدفن بالرجوم، ضمن محيط ملتقى وادي غوير مع فينان اللذان يشكلان وادي أفدان، وفي الأفق جبال الشراة ووادي عربة.

كما عبرنا مزارع خيار وبندورة تناولنا بعض من ثمارها، وأشجار محمية من أكاسيا وطلع أسمر وسدر وألبان ونباتات الرتم والغضا والعجرم وغيرها مما وهب الله أرض فينان، فهذا وطننا الكبير مملكة النحاس في الجنوب ومناجم الحديد بعجلون.