عبد الرحيم العرجان
ما من حضارة إلا وتركت لها أثر في سيل الزرقاء عبر التاريخ والزمان، وعلى جنباته؛ وجدت أقدم التماثيل التي عبدها الإنسان وقدّسها، وإليه التجأت الشعوب والأعراق طلباً للخير والأمان، أما بالنسبة لحوضه، فقد قامت نهضة الأردن الحديث ومنه قد عبر أنبياءٌ وتجارٌ وعسكرات الجيوش.
مما ندر أن يختار عشاق المسير والترحال دربهم ضمن محافظة الزرقاء، مع ان كل شبر فيها يحمل في طياته حكاية وقصة وتاريخ، لذا رسمنا مسارنا ليوم كامل لاكتشاف مكنوناتها التي تعود الى آلاف السنين منذ فجر تاريخ الشعوب والبشرية، فكان الرابط ما بين أكبر مدينتين بحلف الديكابولس فيلادلفيا وجراسيا، وعبر مخاضة نبي الله يعقوب عليه السلام وقصته الشهيرة في طريقة إلى بيت المقدس، وقد ذكر في الرسائل الأكادية التاريخية لتل العمارنة ضمن أرشيف الملك أخناتون بمصر، وعلى ضفته بنى الأمير شبيب التبعي الحميري قصر لزوجته الحمراء ونظم فيه كثير من فطنة العرب أشعارهم، أما في حوضه؛ فقد أقيمت أهم مصانع المملكة الحديثة من دباغة ونسيج ومطاحن وتعليب، وفيه سكن أعراق وقبائل مختلفة من الشركس، والشيشان، والفلسطينيين، وبني معروف ومرة، حيث أقاموا مزارعهم وبيوتهم حوله، و ذُكر عبر التاريخ ياقوت الحموي والفرماني و لقلقشندي، ولا بد الإشارة إلى أنه قد عسكر فيه القائد صلاح الدين الايوبي، وعبر ضفتيّه القطار الحجازي ما بين محطتي عمان والزرقاء، وعند نقطة الفصل بينه و عمان تحديداً بعين غزال، وُجدت أقدم تماثيل صنعها الإنسان وإحداها بعظمته يثير دهشة زوار متحف لوفر ابوظبي بقاعة الدخول الأولى.
اخترنا مسارنا بعد ليل ماطر، وهو من افضل أوقات المسير في فصل الشتاء، ضمن محيط قرى: الهاشمية،غريسا، القنية، المطوق، خريسان وانتهاءً بمشارف السخنة حيث الفيصل الجامع بينها هو وجود أحواض لآثار “الدولمنز” فيها التي تعود إلى أكثر من خمسة آلاف عام، ومن المعتقد أنها كانت من أوائل المدافن التاريخية مكتملة البناء، فأحواضها لم يتم انتهاكها أو تخريبها باستثناء منطقة الهاشمية التي أوقفت كساراتها للحفاظ على هذه الآثار بعد أن دمرت عدد منها، حيث تعد من الإرث الإنساني الخالد والواجب حمايتها والاهتمام بها، وجعلها مقصد ومسار متكامل لعشاق الاستكشاف ضمن محافظة الزرقاء، فمسارنا لم يكن لينتهي من الحوض حتى ندخل حوض متكامل آخر، وضمن طراز بنّاء وعمارة مختلفة؛ ففي خريسان الأضخم، والمطوق المبني على سلاسل حجرية، وفي السخنة الأصغر حجماً في المملكة، وما بينها كهوف و مغارات، فقد كان مأوى للكواسر من أسود وفهود وثعالب المنطقة ومنه اشتق تسميته العربية البدوية القديمة وادي المسبعة ضمن محيط جفرافي قاسٍ، خلف رجال عرف عنهم القوة والبأس الشديد، وإن جالست كبار السن هناك سوف تسمع الكثير من القصص كأنها من ضرب وحي الخيال التي أكثرها يوصف لنا الشجاعة.
كان للضباب سحره الخاص بين تلال المكان، فكان يلف المزارع الغناء تارة ويكشف السيل الهادر بما جمعه من شتاء جبال عمان وشعاب الزرقاء تارة أخرى، والذي سُميّ نسبة الى زرقة مياهه، التي أصبحت اليوم بعيدة كل البعد عن هذه التسمية لاختلاطها بالمياه العادمة والصرف الصحي.
أما الاسم القديم الذي اشتق منه فهو ( زار – كي ) أي أرض المياه باللغة الأكادية، وقد سموه الرومان والصليبين والفرس بسيل التماسيح لكثرة تواجدها فيه بذلك الوقت، كما ذُكر باسم نهر يابوق وسيل حتيت في كثير من المصادر.
وبعد مسير سبعة عشر كيلو بمستوى متوسط منخفض الصعوبة، أنهينا رحلتنا قرب جسر السخنة بجانب إحدى المزارع مشرفين على مجرى السيل ليكون غدائنا التراثي “قلاية بندورة” بلدية، قُطفت حباتها من نفس المكان.
بعدها استوقف تجمعنا إحدى شيوخ المنطقة من بني حسن الكرام الذي شاركنا قهوتنا مرحب جل ترحيب بنا والحديث عما شاهدنا من معالم، شارحاً لنا كثير من تفاصيلها، وقصة الأسد الذي افترس عتبة بن ابي لهب برحلة إيلاف قريش، لنعود أدراجنا الى عمّان الحبيبة؛ مروراً ببيرين وتل عيسى الأثري والمتضمن أيضا حوضٌ مهم لآثار الدولمن الذي يبعد عن شارع الأردن مسافة لا تتجاوز النصف كيلو دون أي إشارة إرشادية.