أ.د. أحمد ملاعبة/ خبير التراث الطبيعي والسياحة البيئية-الجامعة الهاشمية
على مقربة من الزاوية الهادئة والبعيدة من البادية الأردنية الجنوبية وعلى مرأى من الحدود الأردنية السعودية يتواجد جب أو هوة كبيرة غائرة ومتسعة بحيث يمكن اعتبارها الأميز والأندر بين الهوات محلياً وعالمياً.
تعرف هذه الهوة باسم ”مخسف النجم” حيث ظن الناس أن نجماً أو نيزكاً قد هوى من الفضاء واصطدم بالأرض في هذا المكان مسبباً هذه الهوة الكبيرة جدا. ولعلة تفسير متوارث قد وجد عند الكثيرين قبولاً جعل التحدي يكبر لتفسير المجهول الذي هوى في المكان.
وللوصول الى هذه الهوة فإنه يمكن للقادم من الجنوب (معان) أن يسلك طريق الجفر-باير والذي أنشىء حديثاً ليصل الى العقبة بالازرق، فعلى بعد حوالي العشرين كيلو متر وعند مخفر البادية الواقع على حواف قاع الجفر والذي رغم عمره الطويل الذي يزداد عن الثمانين عاماً فإنه لا يزال فيه حماة الديار الذين أشاعوا جواً من الأمن والاستقرار في هذا الجزء من البادية. ويشرف المحفر على بلده الجفر القديمة والتي لا زالت أطلالها تمثل معلمة التاريخ والتراث الأردني القديم.
و في المكان تتواجد فيه الآبار القديمة التي تعرف بئر أو آبار طي وهي آبار مطوية وبعمق يتراوح الى اكثر من العشرين متراً بحيث تتجمع المياه في داخلها تلقائياً حتى تحميها من الانسداد بسبب ما قد ينحدر الى جوفها أو جنباتها من رمال. لقد كان الماء يستخرج منها ويجمع في قنوات تؤدي الى برك كبيرة يشرب منها الواردون وترتوي منها قوافل الإبل.
وبعد وداع بلدة الجفر القديمة. ومن الجفر وقبل مغادرة الطريق المعبد يمكن مشاهدة على جانبي الطريق جبل خزيمة وكذلك شعاب وجبال العاذريات (أم طور والدمثة) وهي جبال يمكن تسميتها بجبال الحضارات كونها رفدت الأمم السابقة بالادوات الصوانية مثل المدي ورؤوس الرماح والسهام حيث تتواجد فيها العديد من أقدم محاجر الصوان في العالم وذلك ضمن تتبعات طبقات الصوان ذات الألوان الزاهية والتي تعرف جيولوجيا بتكوين أم رجام والموقر.
وقبل الدخول في قاع الجفر لا بد من تأمل على الجهة المقابلة للقاع قمة جبل ”إطويل إشهاق” وقد أطل برأسه الجميل الشاهق هو وتوأمه ”طويل شهاق” والذي تشعر بأن كل منها يغازلك بلطف أو يحرسك بعيونه من بعيد وهي أعلى قمم جبال تظهر في المنطقة.
إن مغامرة عبور قاع الجفر تعتبر مغامرة خطرة قل مثيلها إذ أصبحت أرضيته كلها إستواء واحد لا نتوء فيها ولعل القاع بهذا التكوين يعتبر لغزاً محيراً لا بد من اجراء الدراسات الشاملة عليه لتفسير تكوينه والتي جعلت من مواصفاته هدفاً لاقامة سباقات الراليات والهجن والخيل.
والجفر أو الجفار هي البئر الواسعة وجفار الأرض هي الأرض الواسعة التي فيها استدارة ولربما يكون التفسير الثاني هو الأكثر قبولاً في تعليل القاع بالجفر. لقد كانت المركبة تسير بسرعة جنونية داخل القاع وكانه مهبط طائرات كانت الدقائق والساعات تمر بهيبة وحذر يضفيه السكون في أرض القاع فلقد جف كل شيء ولم يبقى الا بعض الشجيرات المنتشرة هنا وهناك وبعض هياكل الجمال التي نفقت بعد أن أضناها الجوع والعطش. بعدها وقبل وصول منطقة أطلق عليها اسم السيق كونها منطقة العبور الأضيق في القاع انتصب على جانب القاع الجبل الوردي والذي تنتشر عليه صخور لها شكل الورد والتي نتجت عن التحام حبات الرمل بمعادن البارايت لتعطي تراثاً طبيعياً نادراً لا بد من حمايته، وبعد عبور منطقة السيق باتجاه تلول مشاش وغراميل حدرج كانت الأكمات والتلال تعطي أشكال المنحوتات رائعة صنعتها الرياح والأمطار عبر السنين والتي تمثل متحفا مفتوحا للمنحوتات التشكيلية الطبيعية حيث بعضها يشبه مجسمات الحيوانات أو الاطباق الطائرة او الطيور ولعل ابرزها مجسم يشبه نسرا بجناحين ضخمين واخر مثل موائد الشيطان مما يعجز الكاميرا مهما كانت سعتها عن التقاط غزارة هذه التشكيلات.
وحال الوصول عند الهدف ”مخسف النجم” ورغم زيارة الموقع لأكثر من مرة عبر السنوات الماضية إلا أن هذه الزيارة مؤلمة لأن الهوة قد تعرضت للعبث حيث كانت براميل كبيرة عددها كثير أراد عابث أن يتخلص منها فقام برميها بوحشية من أعلى الى داخل الهوة لكنها رغم ذلك ظلت زاهية بهية ويبدو أن هناك من حاول النزول الى أرضية الهوة عن طريق تشكيل سلم من أنابيب المياه الألمنيوم ولكن يبدو أن عشرات الأمتار التي أحضرها معه لم تكن كافية للنزول الى قاع الهوة فسقط السلم الصغير الى قاع الهوة الفسيح دون أن يتمكن من الهبوط وتحقيق هدفه.
بدأت رحلة دراسة هذا المشهد المحير وذلك بالهبوط على الحبال باستخدام لباس التسلق والنزول المثبتة واللواقط. ولعل الذي يريد أن يمارس هذه المغامرة يجب أن يكون لديه التدريب الكافي في أحد المراكز العالمية المتخصصة. لقد تم استخدام مقدمة السيارة لربط الحبال للنزول. لقد كان المشهد في بدايته مرعباً حيث أن أي خطأ في لواقط الأمان قد تجعلك تهوي بدون كوابح لترتطم بقاع الهوة لكن كانت الرحلة مثيرة ولربما الأجمل إلى القلب طوال العمر. بدأت أتأمل تتابعات الهوة لقد كانت تعطي تشكيلات حلقية مستديرة يتعاقب فيها صخور جيرية بيضاء وصخور صوانية بنية داكنة وبنمط تشكيلي بديع أخذت تقريباً ساعة من الزمن للوصول الى قاع الهوة المتسع.
لقد كانت أعشاش الحمام كثيرة وجميلة ترتع فيها الفراخ الصغيرة ذات الألوان الجذابة، أخذ بعضها لوناً مخضراً يميل إلى الزرقة والتي رغم عدم ازعاجها بدأت تفر والتحليق هروباً خارج الهوة ولكن استسلمت صغارها بكل وداعة للكاميرا. عشرون متراً والحبل يترنح شمالاً ويميناً مسبباً اصطداماً مؤلماً مع جدران الهوة. لقد كانت أرضية الهوة ممتلئة بأكوام الرمال المختلطة بقطع الصخور وأشياء أخرى غريبة وكثيرة والتي جلبتها الرياح عبر آلاف السنين التي خلت.
لقد بدأت الرحلة لحل هذا اللغز الغريب، لماذا هوت الأرض نحو الأسفل في هذا الموقع بالذات لتعطي هذه الهوة ذات الشكل ألأجاصي الضخم استخدمت جهاز قياس المسافات الليزري (Disto-meter) لعمل مخطط مساحي للهوة وقد جمعت عينات من بين ثنايا الصخور وكذلك المواد العضوية والنبات المختلطة بالأرض والصخور وأشياء أخرى كثيرة وبعدها صعدت على الجبل الى خارج الهوة بعد معاناة كبيرة وطويلة.
بدأت وحال وصولي الى الجامعة الهاشمية بإجراء الفحوصات العلمية الدقيقة على العينات وبدأت أبحث في سجلات أبار المياه والنفط التي حفرت في المنقطة عن أنواع الصخور المتواجدة في المنطقة حتى عمق أكثر من الفي متر لعلي أجد ضالتي المنشودة والتي عادة تكون حلقات الجبص السميكة وذلك لأنها تمثل طبقات ضعف يمكن ان تذيبها المياه الكامنة في جوف الأرض وبشكل سريع حيث يبلغ معدل ذوبان الجبص في الماء(45و2غرام في اللتر) وهو رقم قياسي ومرتفع مقارنة بمعدل إذابة الصخور الأخرى كالجيرية مثلاً.
ان غياب طبقات الجبص السميكة تحت الهوة جعلني ابحث عن تفسير آخر. حيث وجدت اشارات الأمل في توفر طبقات الصخور الزيتية(Oil Shale) وبسماكات كثيرة إضافة إلى المصائد النفطية الواقع على امتداد وادي السرحان وهو انهدام أو فالق صخري كبير يمتد حوالي 325 كم من السعودية مروراً بالاردن وسوريا وحتى لبنان ويمر بقاع الازرق (Azraq Basin) والذي يشمل حقل حمزة النفطي والذي حفر فيه 17 بئراً تنتج أربعة منها أقل من 30 برميل يوميا من أصل حوالي 113 بئر حفرت لاستكشاف النفط في الأردن كان نصيب وادي السرحان (الجفر وباير) حوالي 14 بئر أعطت أربعاً منها شواهد نفطية قد لا تكون كافية لتسميتها بالآبار المنتجة ولكن لربما تكون هذه هي البداية ولعل أشهرها بئرأم لحم بالقرب من منطقة الظواين والذي ينز منه النفط حالياً بكمية قليلة لا تتعدى بضعة ليترات ويمكن مشاهدتها بعد أن عبث أحدهم بصمامات حماية البئر وهذا البئر لا يبعد سوى بضعة كيلومترات عن مخسف النجم.
اغتنمت بعدها فرصة زيارتي لجامعة دارم شتات الألمانية وجامعة ولاية كنساس الأمريكية لاجراء الفحوصات اضافية بتقنيات عالية. لقد بدأت النتائج مذهلة إن السبب في تكوين هذه الهوة هو الغازات الهاربة من المصائد النفطية أو طبقات الصخر الزيتي عبر الكسور والفوالق العميقة والتي سمحت لغازات الميثان وكبريتيد الهيدروجين بالصعود خلالها والتى ما أن وصلت عند مستويات المياه الجوفية المتواجدة في المنطقة على عمق مئات الأمتار حيث أدى تواجد الأوكسجين في المياه إلى أكسدة غازات الميثان وكبريتيد الهيدروجين وبالتالي تشكيل محلول حمضي بدأ بتآكل الصخور داخل الأرض والذي مع توغل الزمن شكل هوة أو منطقة ضعف في جوف الأرض غير قادرة على حمل الصخور التي فوقها مما أدى إلى هبوط سريع لهذه للصخور لتتشكل هذه الهوة الأجاصية على سطح الأرض. ان فحوصات تحديد الاعمار المطلقة أكدت ان الحدث لا يتجاوز عمرة بضعة آلاف من السنين مما يؤكد احتمالية هبوط أخر في نفس المكان ربما هذه المرة لجوانب الهوة، والتي قد يعير ذلك من شكلها الاجاصي الى حفرة ذات جوانب مستقيمة.
إن أسطورة مخسف النجم قد هوت وأصبحت الأجرام السماء بريئة من هذا الخسف الذي حصل ولعله من الملفت جداً أن بعض المواقع الالكترونية لجامعات عالمية عريقة قد فسرت ظاهرة مخسف النجم على أنها بئر قام بحفره الأنباط لتجميع المياه ولعل هذا التفسير أكثر غرابة من الأسطورة الشعبية للنجم الذي هوى. إن وجود بعض الهوات الأصغر حجماً مثل هوة الذروة وهوة بئر الوساد (درب النجم) وهوة الادعم (مضرب النجم) واللتان تقعان على حواف حقل حمزة النفطي وعلى امتداد وادي السرحان، يعطي احتمالية على وجود شواهد على المصائد نفطية في المنطقة. كما ان وجود هذه الهوات يثير سؤالا كامنا في الذهن مفاده هل هناك انهدامات ستحدث لاحقا في المنطقة لتعطي هوات جديدة…. سؤال قد يحتاج الى سنوات للإجابة عنه.
لقد امتزج في خاطري بعد كل هذه المعاناة الحاضر والحلم، حلمت بأنه يوما ما سيتم إنشاء طريق إسفلتي معبد الى مكان الهوة، وسيتم تركيب سلم دائري للنزول إليها هذا التراث الطبيعي. واعلانة محمية طبيعية ويتم وضعها على خريطة الأردن السياحية، كي يتمتع الأردنيون بالدخول إلى جوف الطبيعة لروية مقطع في باطن الأرض التي تدب عليها أقدامهم.