اكتشاف نفق مائي في الاردن طوله 140كم

عمون – لم يكن الباحث الدكتور احمد ملاعبه يعلم وهو شاب لم يكمل تعليمه المدرسي بعد ان ما كان يلاحظه من مظاهر حول عيون الماء والغدران ككثيرين غيره من ابناء المنطقة, سيشكل الاساس الموضوعي لابحاث علمية قام بها لاحقا, بعد ان اصبح استاذا جامعيا في السياحة البيئية, والتراث الطبيعي, وصلت به في النهاية لاكتشاف نفق مائي قديم طوله اكثر من مئة واربعين كيلو مترا, يؤكد وفقا لاستشارات اجراها مع مراكز ابحاث عالمية انه اكبر نفق مكتشف حتى الان من آثار الحضارات القديمة, وان هذا الاكتشاف حسب قناعاته سيكون من اهم مكتشفات الالفية الجديدة واضافة نوعية بمستوى البترا.

صحيح ان جذور واوراق اشجار وأدوات انسانية – اطباق واوان – كانت تظهر على سطح المياه, خاصة في الايام الماطرة, وفقا لملاعبه, ما كان يشكل لديه, ولدى غيره من ابناء المنطقة قناعات, تدفعهم لاستبعاد فكرة وجود عين ماء في المكان وظل الامر مجرد ملاحظات اولية, وخربشات مبعثرة على سطح الحقيقة, لم ترق الى مستوى اوسع يدعو الى توسيع دائرة البحث, لا سيما ان المكان محور الحديث يقع داخل محيط منطقة عسكرية, يصعب فيها اجراء ابحاث حينذاك.

يحاول ملاعبه وهو يخوض غمار الماء داخل النفق, استدعاء تداعيات ملاحظاته البدائية ايام الصبا واليفاعة, خاصة حينما كان يرافق والده في جولاته بالمنطقة, واصرار الوالد الدائم على اصطحابه الى طاحونة الماء, التي كان قد اقامها جده لأبيه في مطلع القرن الماضي على احد تفرعات النفق وملاعبه الحفيد يحاول الآن الامساك بما يجول في مخيلته كلما شاهد الطاحونة, التي لا زالت شامخة – وفق تعبيره – في وادي سمر الذي لا تفصله عن كفر سوم سوى إبدر وعين التراب فالانطباعات البدائية غالبا ما تكون اصدق, واكثر قربا من الحقيقة, ولكن! سؤالاً بعينه لا زال يلح عليه:-

هل كان بالامكان اكتشاف هذا النفق لولا علاقته الوجدانية مع بعض من اجزائه?.

للاجابة على السؤال لا بد لملاعبه ان يغوص في تفاصيل علاقته بالنفق محور الحديث, والاشتباك مع هذه التفاصيل بمنهجية علمية, ولكن قبل كل ذلك كيف يمكن لـ العرب اليوم ان تكتب عن هذا الاكتشاف الكبير من دون ان تزور المكان وتتجول داخل النفق?.

لظروف خارجة عن ارادة الباحث ملاعبه, لم يتمكن سوى كاتب السطور زيارة الموقع مع احد ابناء المنطقة ولأن متعة الاستكشاف لا ترقى الى مستوى الزهو بالاكتشاف, فان زيارة مندوب العرب اليوم لم تستغرق سوى ساعات قليلة, انتقل فيها من عمان الى الشمال, ووصل الى مثلث سما الروسان, ومن ثم الى ام قيس, والى إبدر, وحاتم, والحمة, ومن ثم العودة الى مثلث سما الروسان والوصول الى كفرسوم والتجول قبل ذلك في وادي سمر وفي منطقة عين التراب, ومن ثم الى عزريت والى حبراص ويبلا وحرثا, وسمر, وحرص مندوب العرب اليوم على الوصول الى مواقع عدد من عيون الماء عين التراب وعين الغزالات وعين الفوتحا وعين الثور وعين التيس وعين اسعيد وعين قويلبه.

الاطار التاريخي

يقول د. ملاعبه ان الرومان بدأوا بانشاء النفق في القرن الثاني الميلادي حينما امر الامبراطور الروماني هادريان عام 130م بانشائه واستمر العمل به اكثر من ثمانين عاما غير متواصلة, واستخدم البناؤون في بنائه طرقا هندسية بديعة خاصة تلك المتعلقة بتحديد مستوى ميلان ارضية النفق داخل الارض على طول امتداده حتى تبقى المياه متدفقة بشكل انسيابي داخله ويبدو ان الهدف من انشائه حسب ملاعبه هو ربط مدن الـ ديكابولس التي تقع في محيط حوض نهر اليرموك – أبيلا وأربيلا وجدارا – بقناة مائية لتوفير المياه اللازمة لهذه المدن, ما يجعل اطلاق اسم نفق اليرموك – ديكابوليس عليه موائما للسياق التاريخي, ولم يتم اكتشاف ما يفيد ان القناة تستمر بعد ام قيس حيث تقع نهاية النفق, ومن الواضح ان القرى والتجمعات السكانية التي ظلت قائمة من دون انقطاع في محيط النفق منذ انشائه مرورا بالعصر البيزنطي والاسلامي ولغاية اليوم قد استخدمت المياه المتدفقة من داخل النفق.

يأتي هذا الاكتشاف ليؤكد وفقا لملاعبه اهمية الماء ومع ان الماء ظل يشكل معضلة للحضارات الانسانية كافة, منذ حضارات ما بين النهرين وقانون حمورابي الخاص بالماء المسمى أشنونه الا ان الانسان تمكن عبر العصور من تذليل الصعوبات التي تحول بينه وبين الحصول على الماء بطرق ميسرة, ومنها تشييد الاقنية السطحية والداخلية – الانفاق – التي ابتكرها الفرس وفقا للمرجعيات التاريخية كما يقول ملاعبه وانتشرت لاحقا الى انحاء العالم ويبدو ان منطقة بلاد الشام والعراق قد حظيت بنصيب الاسد من القنوات والانفاق المائية التاريخية.

اعلن عن هذا الاكتشاف لاول مرة في الدورة السادسة لمؤتمر دور العلوم والتكنولوجيا في الآثار الذي نظمته الجامعة الهاشمية – معهد الملكة رانيا – بالتعاورن مع جهات محلية وعالمية وعقد في العاصمة الايطالية روما مطلع هذا العام ويقول د. ملاعبه انه وفريق البحث الذي يرئسه تمكنوا بعد الاعلان في روما من اكتشاف اجزاء جديدة مهمة من النفق اسهمت في اثراء الاطار العلمي النظري لهذا الاكتشاف.

الصخور التي تتكون منها الطبقات السطحية للارض في المنطقة التي أقيم فيها النفق, هي صخور الطباشير الجيرية, او الجيرية ومن الصوانية التي تتبع تكوين طبقات وادي الشلاله العائد للعصر الثلاثي وتعود بعض طبقات الصخور لتكوين أم رجام.

ويشير د. ملاعبه انه استند في اعتبار نفق اليرموك – ديكا بوليس اكبر نفق اثري الى مرجعيات عالمية اضافة الى خبرته هو خاصة انه ساهم في المانيا في سنوات سابقة مع فريق بحث من جامعة دار مشتات في دراسة نفق دار مشتات وهو نفق طويل ولكنه لا يصل الى مئة كيلو متر, وكذلك حال نفق باريس الاثري.

ويقول ملاعبه ان اكتشاف النفق لم يكن بالصدفة, او ان احدا لم يكن يعرف عنه, فالسكان كانوا يعرفون عن وجود انفاق في المنطقة, ولكنهم لم يكونوا يعرفون ان هذه الانفاق متصلة, وانها عبارة عن نفق طويل, وكذلك حال الباحثين الذين اجروا في السابق دراسات علمية, فقد ركز الباحثون في السابق على وادي الشلالة وعند نبع ام جرين وتحت خربة الزيرقوت ومسحوا مئات الامتار فقط في النفق, ومن الباحثين د. شاهر ربابعه من الجامعة الهاشمية الذي اجرى ابحاثا على اجزاء من النفق حينما كان يحضر رسالة الماجستير في بريطانيا عن خربة اليسلي, وكذلك قام د. محمد وهيب بزيارة استطلاعية الى منطقة الشلاله, ومن الاجانب الألمانيان كيرمر ودورينغ.

قسم الدكتور الملاعبه النفق الى ست مراحل تبدأ في سورية وتحديدا بقناة سطحية من منطقة دعل ويصل الى درعا والقناة مكونة من الصخور البازبية والكلسية, طولها 40 كيلو مترا, وتأخذ شكل حرف U باللغة الانجليزية, او شكل حذوة الفرس والمرحلة الثانية من درعا الى الطرة بقناة سطحية ايضا, وبالامكان الان ملاحظة متبقيات من هذه القناة في ارض عشيرة الجنايدة في الطرة, والمرحلة الثالثة من الطرة الى وادي الشلالة و عين راحوب, في المغير والرابعة من عين راحوب الى ينابيع القويلبه التي تقع بالقرب من آثار مدينة الـ ديكابوليس ابيلا المشهورة والمرحلة الخامسة من القويلبه الى ينابيع عين التراب في الوادي الذي يفصل بين بلدات سمر و كفر سومو ابدر, ومن ثم باتجاه اودية ابدر, حيث تبدأ المرحلة الاخيرة التي تنتهي بـ ام قيس ويتراوح طول كل مرحلة من مراحل النفق مابين 15 الى 30 كيلو مترا.

وسجل فريق البحث الذي يرئسه ملاعبه تفرعات جانبية للنفق في اكثر من منطقة على امتداد الاودية التي يمر بها كـ متفرع وادي المعلقة في بلدة المغير و متفرع عيون الماء في اودية حكما و علعال و مرو و سمر و ابدر, اسهمت هذه التفرعات في تجميع المياه, وتغذية الينابيع في الاودية, و التفرعات او المقاطع العرضية المنشأة على النفق جاءت على شكل ادراج يصل بعضها الى 80 درجة, وبعضها الاخر على شكل Ramp او منحدر بزاوية 45 درجة, واخرى على هيئة اقنية – حفائر – رأسية, يصل عمقها من 20 الى 80 مترا, وكان العمال ينشئون كل كيلو متر واحد مدخلا الى النفق, لاتاحة المجال امام البنائين من تحديد مستوى الميلان, وكانوا يقيمون كل مترين كوة في الجدار لوضع قناديل الزيت لانارة النفق, واستخدم البناءون ادوات يدوية مثل الشواكيش و المطارق و الازاميل باشكالها المختلفة, وقد ظهرت اثارها على جدران النفق.

ولاحظ فريق البحث وجود مستويين للنفق خاصة في المنطقة الممتدة بين وادي قرى سمر و ابدر و ام قيس ففي هذه المناطق ينقسم النفق الى جزئين, احدهما علوي غير مكتمل الانشاء, وآخر سفلي ويلاحظ ان ابعاد النفقين متشابهة بالعرض والارتفاع, كما وجد فريق البحث ادراجا كبيرة علوية داخل النفقين, ترتفع لتصل الى منافذ النفق على سطح الارض, وتنتهي بغرف واسعة, ما يشكل دليلا على انها كانت تستخدم للسكن, كما وجد الفريق الذي يرئسه د. ملاعبة كتابات على جدران النفق باللغتين الرومانية والعربية, كما لاحظ الفريق انه تم تبطين جدران النفق بطبقات قصارة لمنع تسرب المياه من الشقوق والكسور.

يقول د. ملاعبه ان 80% من اجزاء النفق قد تهدمت بفعل التقادم والزلازل, واغلقت عددا كبيرا من مداخل النفق بالركام, ولكن ذلك لا يمنع من اعادة تأهيل النفق, فالدكتور الملاعبة منكب الان على دراسة لتوثيق كافة تفاصيل النفق علميا بشكل شامل, وذلك لاغراض اعادة تأهيله والبدء بتسويقه لاغراض وضعه على خارطة الاردن للسياحة البيئية, والاستفادة من كميات المياه الضخمة التي تتجمع داخل النفق كما انه من المنتظر قريبا ادراج النفق ضمن قائمة منظمة اليونسكو للتراث الحضاري الانساني.

نفق اليرموك – ديكابوليس اكتشاف كبير لباحث اردني اجتهد فاصاب, ويحتاج الامر الان مزيدا من الاهتمام من الجهات الحكومية المعنية لتوفير متطلبات تأهيل النفق ووضع خطط لتسويقه, كما يحتاج الامر الى تنظيف النفق من الردم, الذي جاء بسبب انهيار جوانب منه بفعل التقادم والزلازل, وبفعل ترسب ما تحمله المياه المتدفقة للنفق, خاصة في الاجزاء الواقعة ضمن بلديات خرجا ويبلا, حيث طمر النفق تماما لعدة كيلومترات ولكن يبقى سؤال في البال.

– عبقرية الانسان قبل الفي عام تمكنت من التحايل على الطبيعة فذللت الصعاب وابتكرت طرقا ميسرة لايصال المياه الى العطشى فهل نعتبر?

( العرب اليوم – محمد ابو عريضة )

 

اترك تعليقاً

لن ينشر بريدك الإلكتروني.