البقيعاوية مياه وصخور بركانية وشجرة معمرة لها حكاية

شجرة بقلب الصحراء تقف وحيدة منذ مئات السنين، حباها الله بكرامة استظلال نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام تحتها، عندها كانت بشارة الراهب بحيرة بنبوة المصطفى الحبيب، لنسير إليها بدرب حجارته السمراء، شّكلها الأولون لتكون مستوطنات لهم وقد وجد بينها الأثريون أقدم كسر خبز.
مواقع تاريخية
بحكاية تلك الشجرة يستهل الباحث والفوتوغرافي عبد الرحيم العرجان سرد تفاصيل رحلة فريق «مسارات» الذي يقوده الى منطقة البقيعاوية، ويضيف:
مع الصباح الباكر وصلنا نقطة الانطلاق ما بين منطقة الصفاوي والأزرق بعد أن رسمنا مسارنا الكترونياً ليمر بعدد من المواقع الطبيعية والتاريخية من قيعان وغدران ماء والتوسع بدراسته بما أًتيح لنا من مصادر علمية لتكون رحلة معرفية فكرية على مدى ستة عشر كيلو مترا وهي من المشاهدات بين الصخور الحرة البازلتية التي قذفها بركان جبل العرب بسوريا فوق حوض الحماد المائي العذب.
بدأ مسارنا من نقطة إعادة الضخ لخط نفط كركوك حيفا الذي مدته شركة نفط العراق عام 1932 على طول الف كيلو متر تقريباً ليتوقف بعد عملة بإحدى عشرة سنة بسبب احتلال فلسطين 1948 واستهدافه من عصابة الأرجون، لتبقى بعض من أطلال انابيبه المعدنية ومحطات الضخ والتقوية ماثلة لغاية اليوم ومنها الموقع الذي نحن فية ضمن المحطة الأردنية الخامسة (اتش 5)، وبالقرب منه كان يمر خط نفط التابلاين السعودي الذي يبدأ من بقيق بحفر الباطين حتى ميناء صيدا اللبناني والذي توقف ايضاً مع النكسة الثانية من الاحتلال الغاشم، فيما كان يعد أطول خط نفطي بالعالم بمسافة 1664 كم، لتدرج السعودية مرحلته في أراضيها ضمن التراث الوطني للمملكة المحمي 2020، ولا بد الذكر بأن هناك تيقنا بمدى أهمية التعاون العربي وتكامله اقتصادياً وسياسياً وجغرافياً واشتراكه بالطبيعة والبيئة والهدف.
كان طريقنا كاملاً دون درب مرسم أو ترابي بل كان فوق الحجارة والصخور البازلتية التي كانت تتلألأ كالذهب مع أشعة الشمس بما شبعت من رطوبة الندى بدرجة حرارة تباينت ما بين الصفر وسبع درجات مئوية، الأمر الذي منحنا طاقة أكبر لإنجاز المسافة بفترة قصيرة لانخفاض الحرارة مع توجب ارتداء ملابس خفيفة لا تعيق الحركة ذات تقنية المحافظة على حرارة الجسم، واستخدام عصي الارتكاز خشية التدعثر بالحجارة وحذاء يغطي الكاحل لحماية أربطة القدم مع الحذر من عدم ثباتها لرخوية التربة.
مستوطنات بشرية
ويضيف العرجان: مررنا بعدد كبير من المستوطنات البشرية التي تعود معظمها إلى العصر الحجري وما بعده بأشكالها الدائرية المتجاورة بأسوار متباينة الارتفاع ومصائد الغزلان والحيوانات المنتشرة بالمنطقة بذلك الوقت التي تأخذ شكل الطائرة الورقية بذيلين أو رقم سبعة بالعربية، حيث كان الإنسان يطارد فريسته ويلاحقها للتدخل بين هذين الجدارين الممتدين مئات الأمتار ومع متوسط عرض بناء مترين؛ ليضيق في نهايته حتى يصل الى المصائدة التي كانت تشكل متاهات والإجهاز عليها هناك أو ابقائها حية لحين الحاجة إليها، وتحدثنا عنها بشكل موسع في مقالنا السابق، لنسير بمحاذات الجدران الطويلة مسافات من واحدة إلى أخرى ومن الأمور المحيرة فيها أن معظمها ذات مسارات تتجه من الشرق إلى الغرب وتتفرد المملكة بوجودها، كما يعتقد أنها بداية تدجين الحيونات اللاحمة واستئناسها، ضمن المنطقة عثر فيها الأثريون على أقدم كسر خبز تعود إلى ما قبل 14500 عام، كما وجدنا عددا من مطاحن الحنطة اليدوية بطريقة الفرك والسحق بين حجرين. وللشتاء في البادية سحره الخاص بما امتلأت منه غدران وقيعان الماء؛ ما أعاد الحياة لنباتات الصحراء الموسمية من شيح وبابونج وجعدة وقيصوم الشائع استخدامها بالوصفات العلاجية للطب الشعبي والبديل قطفنا بعضها وعطرنا أقداح الشاي بشيء من الزعتر البري على جمر الغضا بجانب إحدى البحيرات، وتروي أيضاً مشاريع زراعية متطورة بمساحات جرفت من سمرتها وليس بالبعيد عنها مشاريع حصاد الطاقة الشمسية.
بدأت الشجرة والقاع بالظهور من مسافة ثلاثة كيلومترات، وما يرفده من أودية تصب فيه الصفاوي وجحيش واللحضي، وهو المكان المتوسط مابين طرق التجارة القديمة المتشعبة لبصرى الشام ودومة الجندل وجاوا شمال الأردن وقصر برقع قرب الحدود العراقية والجزيرة العربية واليمن والبحرين ضمن طريق البخور ودرب الملح وطريق ذيوكلتيانوس الروماني، كما ذكرت المنطقة الرحالة البريطانية جيرترود بيل بمذكراتها أثناء رحلتها إلى عاصمة الرشيد حائل عندما خيمت بمنطقة الفهدا.
تجمع للمياه
وتابع العرجان: سمي القاع بالبقيعاوية؛ لأنه يشكل بقعة عظيمة تتجمع فيها المياه دون منفذ وتجف صيفاً، وفي وسطه نبتت الشجرة التي استظل بها رسول الله عليه الصلاة والسلام مرتين؛ الأولى عندما كان عمره عشر سنوات ليلتقيه هناك الراهب بحيرة وتحتها شاهد على كتفة خاتم النبوة وبشر به ليشير بعودته إلى مكة خشيةً عليه من بطش اليهود إن تعرفوا عليه، والثانية أثناء رحلة الأمين بتجارة لأم المؤمنين السيدة خديجة وعمره خمسة وعشرون عام برحلة إيلاف قريش مابين الجزيرة والشام، ويقدر عمر شجرة البطم الأطلسي بألف وخمسمائة عام تورق صيفاً ومن المعروف أن صمغ هذا النوع من الأشجار يستخدم معقما للفم وتخلط بذورها الطيبة مع التوابل.
أما وقت الغروب، فقد أمضيناه تحت الشجرة لنعود إلى الحافلة سالكين الطريق البازلتي القديم، لتناول غدائنا في نهايته بما أوصيناه من طعام أعده أحد مطابخ الأكلات الدرزية لسيدات من بني معروف الكرام والذي يحتوي على كبة نباتية ذات خلطة طيبة من الجريش والبطاطا، وكبتهم الحارة المعروفة «الحريفة» ومن مكوناتها الفلفل الأحمر «الزعاط» كما يسمونه بالعامية والسلطة التي دخل في مكوناتها العدس، وكانت ضيافتها تحلاية بطبق مشبك إكراماً لنا في ديارهم الأزرق، ومن الطرائف التي مررنا بها نقش صخري حديث يمثل وسم الماشية، ورسم لسيارة مشابة لطريقة النقوش القديمة المحيطة بالمنطقة.